إعادةُ الزمنِ إلى الوراء بالبيانات التأريخية
يمكنُ لعلماءِ الآثار اِستخدامَ الصور التأريخية والخرائط الطبوغرافية لمعرفة كيف بدتْ منطقة اِهتمامِهم في الماضي القريب . يعودُ تأريخُ الكثيرَ من هذه البيانات إلى القرن العشرين فيما يتعلّقُ بالحروبِ العالمية أو الحرب الباردة أو بجهودِ القوى الاِستعمارية لِلتوثيقِ وبالتالي تحسينِ سيطرتها على الأراضي المُحتلّة . كيف يمكن لهذه الخرائط أو الصور القديمة أن تكون مفيدة لعلماء الآثار الذين لا يدرسون الماضي القريب ؟
شَهِدتْ السنوات الستون الماضية تحوُّلاً جذريا في المظهر الطبيعي عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا . يبلغُ عدد سكان المنطقة اليوم حوالي 475 مليون نسمةٍ ، ولكن إذا عدتَ إلى عام 1960 فقد كان عددهم أقل من ربع حجمها الآن. يحتاجُ الناس إلى أماكن للعيش والعمل لذلك كان على مُؤسسات الإسكان والصناعة وجميع البنية التحتية المُرتبِطة بها مواكبةَ هذا النمو السكاني السريع . وقد فرضَ هذا التوسُّع ضغطًا هائلاً على المواقع الأثرية مع تدمير أو بعثرةِ أعدادٍ هائلة في هذه الفترة .
كما توسعّتْ الزراعةُ أيضاً لتوفيرِ الطعام لهذا النمو السكاني السريع . وقد تضاعفتْ المساحةُ المزروعةُ بالمحاصيلِ الصالحة للزراعة مثل القمح في المنطقة منذ عام 1960 وغالبًا ما كان ذلك على حساب المواقع الأثرية . وأصبحتْ الزراعةُ أيضًا أكثر آلية مُقارَنةً بالطرق الزراعية التقليدية التي لا تزال تُمارَس في منتصف القرن العشرين . كانتْ هناك زيادةٌ بمقدارِ ستة أضعافٍ في عدد الجرّارات المُستخدَمة بين عام 1960 وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. هذا و تضُّرُ هذه المكننة باِلآثار إذ يتُّمُ حرثُ المواقعِ بشكلٍ أعمق أو يمكن إزالتها بالكامِل لتوسيعِ الحقول الزِراعية .
تُعاني الحكوماتُ الكثيرَ من الصعوبات في مواجهة هذه الوتيرة الشرسة للتوسُّع الحضري والزراعي لمنعِ التدمير الشامل للمواقع الأثرية . بينما لا يمكننا عكسَ الضرر الذي لحِق بالآثار خلال الستين عامًا الماضية فإنّه يمكنُ للبيانات التأريخية أن تعطينا أفكاراً حول كيف بدا المظهر الطبيعي قبل حدوث هذا الضرر .
من المهم أيضًا أن نفهم أن الناسَ بحاجةٍ إلى طعامٍ وأماكنٍ للعيش إذ لا يُمكننا إيقافَ كل التوسُّع الحضري والزراعي لإنقاذِ كل موقع أثري . ونحتاجُ لكي تكون عمليةُ تحديدَ الأولويات واِتخاذ القرار فعالةً إلى معلوماتٍ دقيقةٍ حول طبيعة وتوزيع موارد التُراث لاِتخاذ قراراتٍ مدروسة حول ما يجب حمايته . ويُمكنُ أن تساعِدُ البيانات التأريخية في تحقيقِ هذا الأمر .
هل هناك أي مواقع في منطقة اِهتِمامك بِحيث تكون البيانات التأريخية مفيدةً بشكلٍ خاصٍ في إعادة الزمنِ إلى الوراء ؟
الصورُ التأريخية
هناك مجموعةٌ كبيرةٌ من الصور التأريخية التي يمكن أن تكون مفيدةً لعلماء الآثار . على سبيل المثال ، التقطَ سلاحُ الجو الملكي البريطاني صوراً مُكثّفة خلال الحرب العالمية الثانية بما في ذلك أجزاءاً من الشرق الأوسط . وقد نشرتْ الحكومةُ الأمريكية طائراتً على اِرتفاعاتٍ عالية لِتصويرِ المناطق الخاضعة للسيطرة السوفيتية خلال الحرب الباردة . كما أكملتْ شركاتُ التصوير الجوي الخاصة عملياتَ مسحٍ لتسهيلِ تحديث الزراعة وإدارة المياه في المنطقةِ .
سننظرُ بالتفصيل إلى برنامج التصوير الفضائي الأمريكي كورونا ، حيث غطى مساحةً كبيرة ويمكن الوصولُ إلى البيانات بسهولةٍ .
التصويرُ الفضائي بالقمرِ الصِناعي كورونا
نشرَ برنامجُ كورونا شديدَ السِّرية أولَ أقمارِ تجسُّس أمريكية على الإطلاق بين عامي 1960 و 1972 لاِلتقاطِ صور فوق أراضي الاِتحاد السوفيتي وحلفائه دون المخاطرة بفقدانِ الطائرات والطيارين . لقد جاء هذا الفعل كنتيجةٍ مباشرةٍ للإطلاق الناجح لقمرِ سبوتنيك من قِبل الاِتحاد السوفيتي مع اِستثماراتٍ ضخمةٍ قامتْ بها الحكومة الأمريكية لِلحاقِ بالركب . كما ساعد إسقاطُ طائرةَ تجسُّس U2 فوق الاِتحاد السوفيتي في عام 1960 والقبضُ على طيارها أيضًا في تشجيع الولايات المتحدة على تطوير طرقٍ بديلة أكثر أمانًا لجمعِ المعلومات الاِستخبارية . وقد تمَّ رفعُ السِّرية عن الصور من هذه المهمة السِّرية فقط في عام 1996.
تمَّ على مدار الاثني عشر عامًا من برنامج كورونا إطلاقُ 144 قمرًا صناعيًا . تمَّ اِلتقاطُ ما يقرب من 900000 صورةٍ غطّتْ مساحةً شاسعةً من الكرة الأرضية على الرغم من التحيُّزِ الواضح تجاه الاِتحاد السوفيتي وحلفائه المُفتَرضين . اِستَخدمتْ الأقمارُ الصناعية واحدةً أو اِثنتين من الكاميرات البانورامية لاِلتقاطِ الصور بشكلٍ متكررٍ أثناء دورانها حول الأرض .
كانتْ هذه كاميراتُ أفلامٍ بشكلٍ لا يُصدقْ بدلاً من نوع كاميرات المُستَشعرات الرقمية التي تعلمنا عنها في الأسبوع الثاني(2) مما يعني أنه كان لا بد من اِستعادةِ الأفلام فعليًا من الأقمار الصناعية . إذ عندما يتُّمُ اِستخدامُ فيلماً تنفصِلُ كبسولةٌ خاصة عن القمر الصناعي وتسقطُ على الأرض ، ثمَّ تنشر كبسولةُ الفيلم هذه مظلةً والتي إما أن يتمَ اِلتِقاطها في الجو بالطائرة أو يتُّمُ اِستِردادُها من البحرِ .
اِستَخدمتْ كاميراتُ الأقمار الصناعية المذهلة كورونا أفلامًا بِعُرض 7 سم وطول 76 سم . سيتُّمُ اِلتقاطُ هذه الصور الطويلة والرقيقة جدًا واحدة تلو الأخرى وهي مُكدّسةٌ أفقياً لتغطية مساحات شاسعةٍ من الأرض أثناء تحرُّك الأقمار الصناعية في مدارِها . يُغطي كلُّ شريط فِيلم مساحةً يبلغُ عُرضها حوالي 200 كيلومترٍ على الأرض مع العشرات من شرائط الأفلام من مَهمّةٍ فردية تُشكِّلُ كُتلًا يبلغُ طولُها حوالي 1000 كيلومترٍ . وقد اِستخدمتْ البعثاتُ اللاحقة كاميرتين مُوجّهتين إلى زاويةٍ مُختلفةٍ قليلاً مما يسمحُ بِمشاهدةِ الصور ثُلاثية الأبعاد باِستخدام المُعدّات المناسبة مثل فيلم ثلاثي الأبعاد في السينما .
كانتْ الأفلامُ المُستَخدمة في مَهام كورونا بالأبيض والأسود . تتراوحُ الدِّقةُ الأرضية للصور الفوتوغرافية بين 12 مترًا و 2 مترًا . ولم يتُّمْ إجراءُ التحسينات بمرور الوقت فحسب بل قد يظهرُ الفيلمُ في بعض الأحيان أكثرَ ضبابية مما كان متوقعًا أو مكشوفًا بشكلٍ مفرطٍ أو ساطِع جدًا بحيث لا يمكنُ رؤيةُ الكثيرَ من التفاصيل.
سنُلقي نظرةً لاحِقاً على كيف يمكن أن تكون صور كورونا مفيدةً لعلماء الآثار بمزيدٍ من التفصيل ، لكننا أولاً سنناقشُ مصدرنا الثاني للبيانات التأريخية .
الخرائطُ التأريخية
يُعدُّ رسمُ خرائطَ دقيقة ومُفصّلة عمليةً صعبة وتتطلّبُ مهارات عالية ومُكلِفة جداً . كان يتُّمُ رسمُ كل شيء يدوياً قبل وجود الأقمار الصناعية وأجهزة الكمبيوتر بعدَ تسجيلٍ مُكثّفٍ للمعلوماتِ من قِبلِ فرقِ المسّاحين الأرضيين الذين يقومون بِإجراءِ قياساتٍ في الميدان . هذا يعني أن إنشاءَ خريطة أو سلسلةً كاملة من الخرائط يجب أن يستحقَ الجهد والنفقات وعادة ما يعود هذا إلى أحدِ الأسباب الثلاثة : الحرب والسيطرة الاِستعمارية أو الاِستِخبارات الحكومية .
الحربُ أو غيرها من الأنشطةِ العسكرية
تمَّ رسمُ أعداداً هائلةً من الخرائط خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية ، إذ تحتاجُ لتحريكِ القوات والمُعدّات بشكلٍ فعالٍ إلى معرفة التضاريس . تضُّمُ جميعُ الجيوش الكبيرة مسّاحين أرضيين مُحتَرفين وصانعي خرائط وتميلُ الكثيرُ من الخرائط إلى رسمِها قبل أو أثناء النزاعات الكبيرة .
على الرغم من أن المسّاحين الأرضيين العسكريين ليسوا بالضرورة مُهتمين بعلِمِ الآثار إلا أنه غالبًا ما يتمُ تضمينُ المواقِع على هذه الخرائط كمعالِمٍ أثريةٍ واضحةٍ من شأنها أن تُساعد في توجيه أولئك الذين يستخدمونها . وتكونُ هذه المعالِم الأثرية في حالات أخرى ولا سيما تِلالُ الاِستِيطان وتِلالُ الدفن الكبيرة ذاتَ أهميةٍ عسكريةٍ كمواقعٍ لِمُراقبةِ المنطقة منها أو لتثبيتِ مدافِع كبيرةٍ أو مُعدّاتٍ عسكرية أخرى عليها .
يمكن أن تُسفِر الأنشطة العسكرية الأخرى أيضًا عن خرائط تهمُ علماء الآثار . غالبًا ما تتضّمنُ خرائط الطيران التي تمَّ إنتاجُها للقوات الجوية مواقِعَ أثرية كمعالِمٍ بارزةٍ لِمُساعدة الطيارين على تحديد مواقِعهم .
السيطرةُ الاِستعمارية
شهِدَ أوائلُ القرن العشرين إلى مُنتصفِه توسُّعا وتوطيدا كبيرين للقوى الاِستعمارية ، وقد سمحَتْ الخرائطُ الدقيقة باِلسيطرة على الأراضي الأجنبية واِستغلالها بشكلٍ أكثر فعاليةٍ ، لذلك تمَّ خلال هذه الفترة إنتاجُ الآلاف من الخرائط التفصيلية من قبل بريطانيا وفرنسا وغيرها .
المخابراتُ السرية
كما جمعتْ القوى السياسية الكبرى الخرائطَ لأغراضِ المُخابراتِ السِّرية . رسمَ الاِتحادُ السوفيتي خرائطَ سِرّية للكُرةِ الأرضية بأسرها على عدةِ مُستوياتٍ . تضمّنتْ الخرائطُ السوفيتية لِمُدن الولايات المتحدة والمملكة المُتحدة قواعدَ عسكرية وبياناتً حسّاسة أخرى تمَّ حذفُها من الخرائط المُتاحة للعامةِ في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في ذلك الوقت .
عِلمُ الآثار
أدركَ بعض أولئك الذين ينتجون هذه الخرائط إمكاناتهم في دراسة علم الآثار . على سبيل المثال ، شارك اللفتنانت كولونيل بيزلي في إنتاج خرائط العراق للجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى . قامَ بعد الحرب بكتابةِ مقالٍ للجمعية الجُغرافية الملكية يصفُ فيها كيف يُمكنُ لِلتصويرَ الجوي الذي اِستخدموه لصُنع الخرائط أن يكون أيضًا ذا فائدة كبيرة في علم الآثار. كما قامَ بِتضمين خرائطَ مشرُوحة لسامراء وهي مركز العالم الإسلامي المُبكر مُستمِّدةً من الخرائط العسكرية التي كانوا ينتجونها .
أصبحَ المسحُ الأثري بعد الحرب العالمية الثانية واسِع النِطاق وأكثر شيوعًا ، ورسمَ علماءُ الآثار أنفسَهم خرائطَ واسعةً للمواقعِ . وقد قامَ فريقُ روبرت ماكورميك آدامز برسمِ خريطةٍ لآلآف المواقِع الأثرية في العراق فوق مساحة تقارب مساحة سويسرا. كما أنتج آدامز خرائطَ مُمتازة لا تزال مفيدة جداً حتى يومنا هذا خاصة وأنّ المظاهِر الطبيعية قد تغيّرتْ كثيرًا منذ إجراء مسوحاته في الخمسينيات والستينيات.
الاِستِشعارُ عن بُعدٍ الآثاري المُتقدِّمُ: التنقيبُ في الموقع وآثار المظاهِر الطبيعية وحماية التراث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
الاِستِشعارُ عن بُعدٍ الآثاري المُتقدِّمُ: التنقيبُ في الموقع وآثار المظاهِر الطبيعية وحماية التراث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
Reach your personal and professional goals
Unlock access to hundreds of expert online courses and degrees from top universities and educators to gain accredited qualifications and professional CV-building certificates.
Join over 18 million learners to launch, switch or build upon your career, all at your own pace, across a wide range of topic areas.
Register to receive updates
-
Create an account to receive our newsletter, course recommendations and promotions.
Register for free